سورة الإسراء - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


قوله: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة} هذا تأكيد لما سلف من جملة {كل إنسان ألزمناه} ومن جملة {من اهتدى} والمراد بالعاجلة: المنفعة العاجلة، أو الدار العاجلة. والمعنى: من كان يريد بأعمال البرّ أو بأعمال الآخرة ذلك، فيدخل تحته الكفرة والفسقة والمراءون والمنافقون {عَجَّلْنَا لَهُ} أي: عجلنا لذلك المريد {فِيهَا}: أي: في تلك العاجلة، ثم قيد المعجل بقيدين: الأوّل: قوله: {مَا نَشَاء} أي: ما يشاء الله سبحانه تعجيله له منها، لا ما يشاؤه ذلك المريد، ولهذا ترى كثيراً من هؤلاء المريدين للعاجلة يريدون من الدنيا ما لا ينالون، ويتمنون ما لا يصلون إليه، والقيد الثاني قوله: {لِمَن نُّرِيدُ} أي: لمن نريد التعجيل له منهم ما اقتضته مشيئتنا، وجملة: {لمن نريد} بدل من الضمير في {له} بإعادة الجار بدل البعض من الكل. لأن الضمير يرجع إلى {من} وهو للعموم، وهذه الآية تقيد الآيات المطلقة كقوله سبحانه: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشورى: 20]. وقوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} [هود: 15].
وقد قيل: إنه قرئ: {ما يشاء} بالياء التحتية، ولا ندري من قرأ بذلك من أهل الشواذ، وعلى هذه القراءة فقيل: الضمير لله سبحانه، أي: ما يشاؤه الله، فيكون معناها معنى القراءة بالنون، وفيه بعد لمخالفته لما قبله، وهو {عجلنا} وما بعده وهو {لمن نريد}. وقيل: الضمير راجع إلى {من} في قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ} فيكون ذلك مقيداً بقوله: {لمن نريد}: أي: عجلنا له ما يشاؤه، لكن بحسب إرادتنا فلا يحصل لمن أراد العاجلة ما يشاؤه إلاّ إذا أراد الله له ذلك. ثم بعد هذا كله فمن وراء هذه الطلبة الفارغة التي لا تأثير لها إلاّ بالقيدين المذكورين عذاب الآخرة الدائم، ولهذا قال: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ} أي: جعلنا له بسبب تركه لما أمر به من العمل للآخرة وإخلاصه عن الشوائب عذاب جهنم على اختلاف أنواعه {يصلاها} في محل نصب على الحال أي: يدخلها {مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} أي: مطروداً من رحمة الله مبعداً عنها، فهذه عقوبته في الآخرة، مع أنه لا ينال من الدنيا إلاّ ما قدره الله سبحانه له، فأين حال هذا الشقيّ من حال المؤمن التقيّ؟ فإنه ينال من الدنيا ما قدّره الله له وأراده بلا هلع منه ولا جزع، مع سكون نفسه واطمئنان قلبه وثقته بربه، وهو مع ذلك عامل للآخرة منتظر للجزاء من الله سبحانه، وهو الجنة، ولهذا قال: {وَمَنْ أَرَادَ الآخرة} أي: أراد بأعماله الدار الآخرة {وسعى لَهَا سَعْيَهَا} أي: السعي الحقيق بها اللائق بطالبها، وهو الإتيان بما أمر به، وترك ما نهى عنه خالصاً لله غير مشوب، وكان الإتيان به على القانون الشرعي من دون ابتداع ولا هوى {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} بالله إيماناً صحيحاً، لأن العمل الصالح لا يستحق صاحبه الجزاء عليه إلاّ إذا كان من المؤمنين: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27]، والجملة في محل نصب على الحال، والإشارة بقوله: {فَأُوْلَئِكَ} إلى المريدين للآخرة الساعين لها سعيها وخبره {كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} عند الله، أي: مقبولاً غير مردود، وقيل: مضاعفاً إلى أضعاف كثيرة، فقد اعتبر سبحانه في كون السعي مشكوراً أموراً ثلاثة: الأول: إرادة الآخرة، الثاني: أن يسعى لها السعي الذي يحق لها، والثالث: أن يكون مؤمناً. ثم بين سبحانه كمال رأفته وشمول رحمته فقال: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ} التنوين في {كلاً} عوض عن المضاف إليه، والتقدير كل واحد من الفريقين نمدّ، أي: نزيده من عطائنا على تلاحق من غير انقطاع، نرزق المؤمنين والكفار، وأهل الطاعة وأهل المعصية، لا تؤثر معصية العاصي في قطع رزقه، وما به الإمداد هو ما عجله لمن يريد الدنيا، وما أنعم به في الأولى والأخرى على من يريد الآخرة، وفي قوله: {مِنْ عَطَاء رَبّكَ} إشارة إلى أن ذلك بمحض التفضل وهو متعلق ب {نمد} {وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ مَحْظُورًا} أي: ممنوعاً، يقال: حظره يحظره حظراً: منعه، وكل ما حال بينك وبين شيء، فقد حظره عليك، و{هؤلاء} بدل من {كلا} وهؤلاء معطوف على البدل. قال الزجاج: أعلم الله سبحانه أنه يعطي المسلم الكافر وأنه يرزقهما جميعاً الفريقين فقال: {هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ}. {انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون لكل من له أهلية النظر والاعتبار، وهذه الجملة مقرّرة لما مرّ من الإمداد وموضحة له، والمعنى: انظر كيف فضلنا في العطايا العاجلة بعض العباد على بعض، فمن غني وفقير، وقوي وضعيف، وصحيح ومريض، وعاقل وأحمق، وذلك لحكمة بالغة تقصر العقول عن إدراكها. {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} وذلك لأن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا، وليس للدنيا بالنسبة إلى الآخرة مقدار، فلهذا كانت الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً، وقيل: المراد: أن المؤمنين يدخلون الجنة، والكافرين يدخلون النار، فتظهر فضيلة المؤمنين على الكافرين. وحاصل المعنى أن التفاضل في الآخرة ودرجاتها فوق التفاضل في الدنيا ومراتب أهلها فيها من بسط وقبض ونحوهما. ثم لما أجمل سبحانه أعمال البرّ في قوله: {وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أخذ في تفصيل ذلك مبتدئاً بأشرفها الذي هو التوحيد فقال: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها ءاخَرَ} والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته، تهييجاً وإلهاباً، أو لكل متأهل له صالح لتوجيهه إليه، وقيل: هو على إضمار القول، والتقدير: قل لكل مكلف: لا تجعل، وانتصاب {تقعد} على جواب النهي، والتقدير: لا يكون منك جعل فقعود؛ ومعنى {تقعد}: تصير، من قولهم: شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها خربة، وليس المراد حقيقة القعود المقابل للقيام؛ وقيل: هو كناية عن عدم القدرة على تحصيل الخيرات، فإن السعي فيه إنما يتأتى بالقيام، والعجز عنه يلزمه أن يكون قاعداً عن الطلب؛ وقيل: إن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادماً مفكراً على ما فرط منه، فالقعود على هذا حقيقة، وانتصاب {مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} على خبرية تقعد أو على الحال: أي فتصير جامعاً بين الأمرين: الذم لك من الله ومن ملائكته، ومن صالحي عباده، والخذلان لك منه سبحانه، أو حال كونك جامعاً بين الأمرين.
ثم لما ذكر ما هو الركن الأعظم وهو التوحيد، أتبعه سائر الشعائر والشرائع فقال: {وقضى رَبُّكَ} أي: أمر أمراً جزماً، وحكماً قطعاً، وحتماً مبرماً {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ} أي: بأن لا تعبدوا، فتكون {أن} ناصبة، ويجوز أن تكون مفسرة، و{لا} نهي. وقرئ: {ووصى ربك} أي: وصى عباده بعبادته وحده، ثم أردفه بالأمر ببرّ الوالدين فقال: {وبالوالدين إحسانا} أي: وقضى بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا، أو وأحسنوا بهما إحساناً، ولا يجوز أن يتعلق {بالوالدين} ب {إحسانا} لأن المصدر لا يتقدّم عليه ما هو متعلق به. قيل: ووجه ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد عبادة الله سبحانه أنهما السبب الظاهر في وجود المتولد بينهما، وفي جعل الإحسان إلى الأبوين قريناً لتوحيد الله وعبادته من الإعلان بتأكد حقهما والعناية بشأنهما ما لا يخفى، وهكذا جعل سبحانه في آية أخرى شكرهما مقترناً بشكره فقال: {أَنِ اشكر لِى ولوالديك} [لقمان: 14]. ثم خص سبحانه حالة الكبر بالذكر، لكونها إلى البر من الولد أحوج من غيرها، فقال: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا}: {إما} مركبة من (إن) الشرطية و(ما) الإبهامية لتأكيد معنى الشرط، ثم أدخلت نون التوكيد في الفعل لزيادة التقرير، كأنه قيل: إن هذا الشرط مما سيقع ألبتة عادة. قال النحويون: إن الشرط يشبه النهي من حيث الجزم وعدم الثبوت، فلهذا صح دخول النون المؤكدة عليه. وقرأ حمزة والكسائي: {يبلغان}. قال الفراء: ثنى لأن الوالدين قد ذكرا قبله، فصار الفعل على عددهما، ثم قال: {أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} على الاستئناف، وأما على قراءة {يبلغن} فأحدهما فاعل بالاستقلال. وقوله: {أَوْ كِلاَهُمَا} فاعل أيضاً، لكن لا بالاستقلال، بل بتبعية العطف، والأولى أن يكون أحدهما على قراءة: {يبلغان} بدل من الضمير الراجع إلى الوالدين في الفعل، ويكون {كلاهما} عطفاً على البدل، ولا يصحّ جعل {كلاهما} تأكيداً للضمير، لاستلزام العطف المشاركة، ومعنى {عندك} في كنفك وكفالتك، وتوحيد الضمير في {عندك} و{لا تقل} وما بعدهما للإشعار بأن كل فرد من الأفراد منهيّ بما فيه النهي، ومأمور بما فيه الأمر، ومعنى {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ}: لا تقل لواحد منهما في حالتي الاجتماع والانفراد، وليس المراد حالة الاجتماع فقط.
وفي {أف} لغات: ضم الهمزة مع الحركات الثلاث في الفاء، وبالتنوين وعدمه، وبكسر الهمز والفاء بلا تنوين، وأفى ممالاً، وأفه بالهاء. قال الفراء: تقول العرب: فلان يتأفف من ريح وجدها، أي: يقول أف أف.
وقال الأصمعي: الأف وسخ الأذن، والثف: وسخ الأظفار، يقال ذلك: عند استقذار الشيء، ثم كثر حتى استعملوه في كل ما يتأذون به.
وروى ثعلب عن ابن الأعرابيّ أن الأفف: الضجر، وقال القتيبي: أصله: أنه إذا سقط عليه تراب ونحوه نفخ فيه ليزيله، فالصوت الحاصل عند تلك النفخة هو قول القائل: أفّ، ثم توسعوا فذكروه عند كل مكروه يصل إليهم.
وقال الزجاج: معناه النتن.
وقال أبو عمرو بن العلاء: الأف: وسخ بين الأظفار، والثف: قلامتها. والحاصل أنه اسم فعل ينبئ عن التضجر والاستثقال، أو صوت ينبئ عن ذلك، فنهى الولد عن أن يظهر منه ما يدل على التضجر من أبويه أو الاستثقال لهما، وبهذا النهي يفهم النهي عن سائر ما يؤذيهما بفحوى الخطاب أو بلحنه كما هو متقرر في الأصول. {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} النهر: الزجر والغلظة، يقال: نهره وانتهره: إذا استقبله بكلام يزجره. قال الزجاج: معناه لا تكلمهما ضجراً صائحاً في وجوههما. {وَقُل لَّهُمَا} بدل التأفيف والنهر {قَوْلاً كَرِيمًا} أي: ليناً لطيفاً أحسن ما يمكن التعبير عنه من لطف القول وكرامته مع التأدب والحياء والاحتشام {واخفض لهما جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} ذكر القفال في معنى خفض الجناح وجهين: الأول: أن الطائر إذا أراد ضم فراخه إليه للتربية خفض لها جناحه، فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التدبير، فكأنه قال للولد: أكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك في حال صغرك. والثاني: أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه، وإذا أراد النزول خفض جناحه، فصار خفض الجناح كناية عن التواضع وترك الارتفاع؛ وفي إضافة الجناح إلى الذلّ وجهان: الأوّل: أنها كإضافة حاتم إلى الجود في قولك: حاتم الجود، فالأصل فيه: الجناح الذليل، والثاني: سلوك سبيل الاستعارة كأنه تخيل للذلّ جناحاً، ثم أثبت لذلك الجناح خفضاً. وقرأ الجمهور: {الذلّ} بضم الذال من ذلّ يذل ذلاً وذلة ومذلة فهو ذليل. وقرأ سعيد بن جبير، وعروة بن الزبير بكسر الذال، وروي ذلك عن ابن عباس وعاصم، من قولهم: دابة ذلول، بنية الذل، أي: منقادة سهلة لا صعوبة فيها، و{من الرحمة} فيه معنى التعليل، أي: من أجل فرط الشفقة والعطف عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم لمن كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، ثم كأنه قال له سبحانه: ولا تكتف برحمتك التي لا دوام لها ولكن {قُل رَّبّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا} والكاف في محل نصب على أنه صفة لمصدر محذوف، أي: رحمة مثل تربيتهما لي، أو مثل رحمتهما لي، وقيل: ليس المراد رحمة مثل الرحمة، بل الكاف لاقترانهما في الوجود، فلتقع هذه كما وقعت تلك.
والتربية: التنمية، ويجوز أن يكون الكاف للتعليل، أي: لأجل تربيتهما، لي كقوله: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198]. ولقد بالغ سبحانه في التوصية بالوالدين مبالغة تقشعرّ لها جلود أهل العقوق وتقف عندها شعورهم.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة} قال: من كان يريد بعمله الدنيا، {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} ذاك به.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية عن الحسن في قوله: {كُلاًّ نُّمِدُّ} الآية، قال: كل يرزق الله في الدنيا البرّ والفاجر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال: يرزق الله من أراد الدنيا، ويرزق من أراد الآخرة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: {مَحْظُورًا} ممنوعاً.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد مثله.
وأخرج الطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد يريد أن يرتفع في الدنيا درجة، فارتفع بها إلاّ وضعه الله في الآخرة درجة أكبر منها وأطول، ثم قرأ: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً}»، وهو من رواية زاذان عن سلمان. وثبت في الصحيحين: «أن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين كما يرون الكوكب الغابر في أفق السماء».
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {مَذْمُومًا} يقول: ملوماً.
وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قرأ: {ووصى ربك} مكان {وقضى} وقال: التزقت الواو والصاد، وأنتم تقرءونها: {وقضى ربك}.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عنه مثله.
وأخرج أبو عبيد، وابن منيع، وابن المنذر، وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه أيضاً مثله، وزاد: «ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد». وأقول: إنما يلزم هذا لو كان القضاء بمعنى الفراغ من الأمر، وهو وإن كان أحد معاني مطلق القضاء، كما في قوله: {قُضِىَ الامر الذى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}
[يوسف: 41]. وقوله: {فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم} [البقرة: 200]. {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة} [النساء: 103]. ولكنه ها هنا بمعنى الأمر، وهو أحد معاني القضاء، والأمر لا يستلزم ذلك، فإنه سبحانه قد أمر عباده بجميع ما أوجبه، ومن جملة ذلك إفراده بالعبادة وتوحيده، وذلك لا يستلزم أن لا يقع الشرك من المشركين، ومن معاني مطلق القضاء معانٍ أخر غير هذين المعنيين، كالقضاء بمعنى: الخلق، ومنه {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات} [فصلت: 12]. وبمعنى الإرادة كقوله: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 47]. وبمعنى العهد كقوله: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر} [القصص: 44].
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وقضى رَبُّكَ} قال: أمر.
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في الآية قال: عهد ربك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {وبالوالدين إحسانا} يقول: برّاً.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ} لما تميط عنهما من الأذى: الخلاء، والبول كما كانا لا يقولانه فيما كانا يميطان عنك من الخلاء والبول.
وأخرج الديلمي عن الحسين بن عليّ مرفوعاً: لو علم الله شيئاً من العقوق أدنى من أف لحرّمه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد في قوله: {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} قال: إذا دعواك فقل: لبيكما وسعديكما.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية، قال: قولاً ليناً سهلاً.
وأخرج البخاري في الأدب، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عروة في قوله: {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل} قال: يلين لهما حتى لا يمتنع من شيء أحبّاه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية، قال: اخضع لوالديك كما يخضع العبد للسيد الفظ الغليظ.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَقُل رَّبّ ارحمهما} ثم أنزل الله بعد هذا {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قربى} [التوبة: 113].
وأخرج البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، وابن جرير، وابن المنذر من طرق عنه نحوه، وقد ورد في برّ الوالدين أحاديث كثيرة ثابتة في الصحيحين وغيرهما، وهي معروفة في كتب الحديث.


قوله: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ} أي: بما في ضمائركم من الإخلاص وعدمه في كل الطاعات، ومن التوبة من الذنب الذي فرط منكم أو الإصرار عليه، ويندرج تحت هذا العموم ما في النفس من البرّ والعقوق اندراجاً أوّلياً؛ وقيل: إن الآية خاصة بما يجب للأبوين من البرّ، ويحرم على الأولاد من العقوق، والأوّل أولى اعتباراً بعموم اللفظ، فلا تخصصه دلالة السياق ولا تقيده {إِن تَكُونُواْ صالحين} قاصدين الصلاح، والتوبة من الذنب، والإخلاص للطاعة فلا يضركم ما وقع من الذنب الذي تبتم عنه. {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً} أي: الرجاعين عن الذنوب إلى التوبة، وعن عدم الإخلاص إلى محض الإخلاص. غفوراً لما فرط منهم من قول أو فعل أو اعتقاد، فمن تاب تاب الله عليه، ومن رجع إلى الله رجع الله إليه. ثم ذكر سبحانه التوصية بغير الوالدين من الأقارب بعد التوصية بهما فقال: {وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ} والخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم تهييجاً وإلهاباً لغيره من الأمة، أو لكل من هو صالح لذلك من المكلفين كما في قوله: {وقضى رَبُّكَ} [الإسراء: 23] والمراد بذي القربى: ذو القرابة، وحقهم هو صلة الرحم التي أمر الله بها، وكرّر التوصية فيها. والخلاف بين أهل العلم في وجوب النفقة للقرابة، أو لبعضهم كالوالدين على الأولاد. والأولاد على الوالدين معروف، والذي ينبغي الاعتماد عليه وجوب صلتهم بما تبلغ إليه القدرة وحسبما يقتضيه الحال {والمساكين} معطوف على {ذا القربى} وفي هذا العطف دليل على أن المراد بالحق الحق المالي {وابن السبيل} معطوف على المسكين، والمعنى: وآت من اتصف بالمسكنة، أو بكونه من أبناء السبيل حقه.
وقد تقدّم بيان حقيقة المسكين وابن السبيل في البقرة، وفي التوبة، والمراد في هذه الآية التصدّق عليهما بما بلغت إليه القدرة من صدقة النفل، أو مما فرضه الله لهما من صدقة الفرض، فإنهما من الأصناف الثمانية التي هي مصرف الزكاة. ثم لما أمر سبحانه بما أمر به ها هنا، نهى عن التبذير فقال: {وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا} التبذير: تفريق المال كما يفرّق البذر كيفما كان من غير تعمد لمواقعه، وهو الإسراف المذموم لمجاوزته للحدّ المستحسن شرعاً في الإنفاق، أو هو الإنفاق في غير الحق، وإن كان يسيراً. قال الشافعي: التبذير: إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير. قال القرطبيّ بعد حكايته القول الشافعي هذا: وهذا قول الجمهور. قال أشهب عن مالك: التبذير هو أخذ المال من حقه، ووضعه في غير حقه، وهو الإسراف، وهو حرام لقوله: {إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين} فإن هذه الجملة تعليل للنهي عن التبذير، والمراد بالأخوة الممائلة التامة، وتجنب مماثلة الشيطان ولو في خصلة واحدة من خصاله واجب، فكيف فيما هو أعمّ من ذلك كما يدلّ عليه إطلاق المماثلة، والإسراف في الإنفاق من عمل الشيطان، فإذا فعله أحد من بني آدم فقد أطاع الشيطان واقتدى به {وَكَانَ الشيطان لِرَبّهِ كَفُورًا} أي: كثير الكفران عظيم التمرّد عن الحق، لأنه مع كفره لا يعمل إلاّ شراً، ولا يأمر إلاّ بعمل الشرّ، ولا يوسوس إلاّ بما لا خير فيه.
وفي هذه الآية تسجيل على المبذرين بمماثلة الشياطين، ثم التسجيل على جنس الشيطان بأنه كفور، فاقتضى ذلك أن المنذر مماثل للشيطان، وكل مماثل للشيطان له حكم الشيطان، وكل شيطان كفور، فالمبذر كفور. {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} قد تقدّم قريباً أن أصل {إما} هذه مركب من (إن) الشرطية و(ما) الإبهامية، وأن دخول نون التأكيد على الشرط لمشابهته للنهي؛ أي: إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل لأمر اضطرك إلى ذلك الإعراض {ابتغاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ} أي لفقد رزق من ربك، ولكنه أقام المسبب الذي هو ابتغاء رحمة الله مقام السبب الذي هو فقد الرزق، لأن فاقد الرزق مبتغٍ له، والمعنى: وإن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح الله به عليك {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا} أي: قولاً سهلاً ليناً كالوعد الجميل أو الاعتذار المقبول. قال الكسائي: يسرت له القول أي: لينته. قال الفراء: معنى الآية إن تعرض عن السائل إضاقة وإعساراً {فقل لهم قولاً ميسوراً}: عدهم عدة حسنة. ويجوز أن يكون المعنى: وإن تعرض عنهم ولم تنفعهم لعدم استطاعتك فقل لهم قولاً ميسوراً، وليس المراد هنا الإعراض بالوجه. وفي هذه الآية تأديب من الله سبحانه لعباده إذا سألهم سائل ما ليس عندهم كيف يقولون. ربما يردّون، ولقد أحسن من قال:
إنْ لا يَكُنْ وَرِقٌ يَوْماً أَجُوُد بِها *** لِلسَائِلين فإنِّي لينّ العُودِ
لا يَعْدم السَائِلوُنَ الخْيرَ مِنْ خُلِقي *** إمَّا نَوالٌ وإمَّا حُسنُ مَرْدُودِ
لما ذكر سبحانه أدب المنع بعد النهي عن التبذير بيّن أدب الإنفاق فقال: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} وهذا النهي يتناول كل مكلف، سواء كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تعريضاً لأمته وتعليماً لهم، أو الخطاب لكل من يصلح له من المكلفين. والمراد: النهي للإنسان بأن يمسك إمساكاً يصير به مضيقاً على نفسه وعلى أهله، ولا يوسع في الإنفاق توسيعاً لا حاجة إليه، بحيث يكون به مسرفاً، فهو نهى عن جانبي الإفراط والتفريط. ويتحصل من ذلك مشروعية التوسط، وهو العدل الذي ندب الله إليه:
ولا تك فيها مُفْرِطاً أو مفَرِّطا *** كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقد مثّل الله سبحانه في هذه الآية حال الشحيح بحال من كانت يده مغلولة إلى عنقه، بحيث لا يستطيع التصرّف بها، ومثّل حال من يجاوز الحدّ في التصرف بحال من يبسط يده بسطاً لا يتعلق بسببه فيها شيء مما تقبض الأيدي عليه، وفي هذا التصوير مبالغة بليغة. ثم بيّن سبحانه غائلة الطرفين المنهيّ عنهما فقال: {فَتَقْعُدَ مَلُومًا} عند الناس بسبب ما أنت عليه من الشح {مَّحْسُوراً} بسبب ما فعلته من الإسراف، أي: منقطعاً عن المقاصد بسبب الفقر، والمحسور في الأصل: المنقطع عن السير، من حسره السفر إذا بلغ منه، والبعير الحسير: هو الذي ذهبت قوّته فلا انبعاث به، ومنه قوله تعالى: {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4]. أي: كليل منقطع؛ وقيل: معناه نادماً على ما سلف، فجعله هذا القائل من الحسرة التي هي الندامة، وفيه نظر، لأن الفاعل من الحسرة: حسران. ولا يقال محسور إلاّ للملوم. ثم سلى رسوله والمؤمنين بأن الذين يرهقهم من الإضافة ليس لهوانهم على الله سبحانه، ولكن لمشيئة الخالق الرازق فقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ} أي: يوسعه على بعض ويضيقه على بعض لحكمة بالغة لا لكون من وسع له رزقه مكرماً عنده، ومن ضيقه عليه هائناً لديه. قيل: ويجوز أن يراد أن البسط والقبض إنما هما من أمر الله الذي لا تفنى خزائنه. فأما عباده فعليهم أن يقتصدوا. ثم علل ما ذكره من البسط للبعض والتضييق على البعض بقوله: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} أي: يعلم ما يسرون وما يعلنون، لا يخفى عليه من ذلك خافية، فهو الخبير بأحوالهم، البصير بكيفية تدبيرهم في أرزاقهم، وفي هذه الآية دليل على أنه المتكفل بأرزاق عباده، فلذلك قال بعدها: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إملاق} أملق الرجل: لم يبق له إلاّ الملقات، وهي الحجارة العظام الملس، قال الهذلي يصف صائداً:
أتيح لها أقيدر ذو خشيف *** إذا سامت على الملقات ساما
الأقيدر تصغير الأقدر: وهو الرجل القصير، والخشيف من الثياب: الخلق، وسامت: مرّت، ويقال: أملق: إذا افتقر وسلب الدهر ما بيده. قال أوس:
وأملق ما عندي خطوب تنبل ***
نهاهم الله سبحانه عن أن يقتلوا أولادهم خشية الفقر، وقد كانوا يفعلون ذلك، ثم بيّن لهم أن خوفهم من الفقر حتى يبلغوا بسبب ذلك إلى قتل الأولاد لا وجه له، فإن الله سبحانه هو الرازق لعباده، يرزق الأبناء كما يرزق الآباء، فقال: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} ولستم لهم برازقين حتى تصنعوا بهم هذا الصنع، وقد مرّ مثل هذه الآية في الأنعام ثم علل سبحانه النهي عن قتل الأولاد لذلك بقوله: {إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}. قرأ الجمهور بكسر الخاء وسكون الطاء وبالهمز المقصور.
وقرأ ابن عامر: {خطأ} بفتح الخاء والطاء والقصر في الهمز، يقال: خطئ في دينه خطئاً: إذا أثم، وأخطأ: إذا سلك سبيل خطأً عامداً أو غير عامد. قال الأزهري، خطئ يخطأ خطئاً، مثل: أثم يأثم إثماً، إذا تعمد الخطأ، وأخطأ: إذا لم يتعمد إخطاء وخطأ، قال الشاعر:
دَعِيني إنمَّا خَطْئِي وصَوْبِي *** عليَّ وأَنَّ مَا أهلكتُ مالُ
والخطأ: الاسم يقوم مقام الأخطاء، وفيه لغتان: القصر، وهو الجيد، والمدّ وهو قليل. وقرأ ابن كثير بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمز. قال النحاس: ولا أعرف لهذه القراءة وجهاً، وكذلك جعلها أبو حاتم غلطاً. وقرأ الحسن: {خطا} بفتح الخاء والطاء منوّنة من غير همز. ولما نهى سبحانه عن قتل الأولاد المستدعي لإفناء النسل، ذكر النهي عن الزنا المفضي إلى ذلك لما فيه من اختلاط الأنساب فقال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} وفي النهي عن قربانه بمباشرة مقدماته نهي عنه بالأولى، فإن الوسيلة إلى الشيء إذا كانت حراماً كان المتوسل إليه حراماً بفحوى الخطاب، والزنى فيه لغتان: المد، والقصر. قال الشاعر:
كَانَتْ فَرِيضةُ مَا تَقُولُ كَمَا *** كان الزناء فريضةَ الرَّجْمِ
ثم علل النهي عن الزنا بقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} أي: قبيحاً متبالغاً في القبح، مجاوزاً للحدّ {وَسَاء سَبِيلاً} أي: بئس طريقاً طريقه، وذلك لأنه يؤدي إلى النار، ولا خلاف في كونه من كبائر الذنوب.
وقد ورد في تقبيحه والتنفير عنه من الأدلة ما هو معلوم. ولما فرغ من ذكر النهي عن القتل لخصوص الأولاد، وعن النهي عن الزنا الذي يفضي إلى ما يفضي إليه قتل الأولاد، من اختلاط الأنساب، وعدم استقرارها، نهى عن قتل الأنفس المعصومة على العموم فقال: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق}. والمراد بالتي حرّم الله: التي جعلها معصومة بعصمة الدين أو عصمة العهد. والمراد بالحق الذي استثناه: هو ما يباح به قتل الأنفس المعصومة في الأصل، وذلك كالردّة، والزنا من المحصن، وكالقصاص من القاتل عمداً عدواناً، وما يلتحق بذلك. والاستثناء مفرّغ، أي: لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلاّ بسبب متلبس بالحق، أو إلاّ متلبسين بالحق، وقد تقدّم الكلام في هذا في الأنعام. ثم بين حكم بعض المقتولين بغير حق فقال: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا} أي: لا بسبب من الأسباب المسوّغة لقتله شرعاً {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا} أي: لمن يلي أمره من ورثته إن كانوا موجودين، أو ممن له سلطان إن لم يكونوا موجودين، والسلطان: التسلط على القاتل، إن شاء قتل، وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية. ثم لما بيّن إباحة القصاص، لمن هو مستحق لدم المقتول، أو ما هو عوض عن القصاص نهاه عن مجاوزة الحدّ فقال: {فَلاَ يُسْرِف فّى القتل} أي: لا يجاوز ما أباحه الله له، فيقتل بالواحد اثنين أو جماعة، أو يمثل بالقاتل أو يعذبه.
قرأ الجمهور {لا يسرف} بالياء التحتية، أي: الولي، وقرأ حمزة والكسائي: {تسرف} بالتاء الفوقية، وهو خطاب للقاتل الأوّل، ونهي له عن القتل أي: فلا تسرف أيها القاتل بالقتل فإن عليك القصاص مع ما عليك من عقوبة الله وسخطه ولعنته.
وقال ابن جرير: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأئمة من بعده، أي: لا تقتل يا محمد غير القاتل، ولا يفعل ذلك الأئمة بعدك. وفي قراءة أبي: ولا تسرفوا، ثم علل النهي عن السرف فقال: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} أي: مؤيداً معاناً، يعني: الولي، فإن الله سبحانه قد نصره بإثبات القصاص له بما أبرزه من الحجج، وأوضحه من الأدلة، وأمر أهل الولايات بمعونته والقيام بحقه حتى يستوفيه، ويجوز أن يكون الضمير راجعاً إلى المقتول، أي: إن الله نصره بوليّه، قيل: وهذه الآية من أوّل ما نزل من القرآن في شأن القتل لأنها مكية.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {إِن تَكُونُواْ صالحين} قال: تكون البادرة من الولد إلى الوالد، فقال الله: {إِن تَكُونُواْ صالحين} إن تكن النية صادقة {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً} للبادرة التي بدرت منه، وأخرج ابن أبي الدنيا، والبيهقي في الشعب عنه في قوله: {إِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً} قال: الرجاعين إلى الخير.
وأخرج سعيد بن منصور، وهناد، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن الضحاك في الآية، قال: الرجاعين من الذنب إلى التوبة، ومن السيئات إلى الحسنات.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {لِلأوَّابِينَ} قال: للمطيعين المحسنين.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب عنه، قال: للتوابين.
وأخرج البخاري في تاريخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ} قال: أمره بأحقّ الحقوق، وعلمه كيف يصنع إذا كان عنده، وكيف يصنع إذا لم يكن عنده، فقال: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا} قال: إذا سألوك وليس عندك شيء انتظرت رزقاً من الله {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا} يكون إن شاء الله يكون شبه العدة. قال سفيان: والعدة من النبي صلى الله عليه وسلم دين.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: هو أن تصل ذا القرابة، وتطعم المسكين، وتحسن إلى ابن السبيل.
وأخرج ابن جرير عن علي بن الحسين أنه قال لرجل من أهل الشام: أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فما قرأت في بني إسرائيل: {وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ}؟ قال: وإنكم للقرابة التي أمر الله أن يؤتي حقهم؟ قال: نعم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في الآية، قال: والقربى: قربى بني عبد المطلب.
وأقول: ليس في السياق ما يفيد هذا التخصيص، ولا دلّ على ذلك دليل، ومعنى النظم القرآني واضح، إن كان الخطاب مع كل من يصلح له من الأمة، لأن معناه أمر كل مكلف متمكن من صلة قرابته بأن يعطيهم حقهم وهو الصلة التي أمر الله بها. وإن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان على وجه التعريض لأمته فالأمر فيه كالأوّل، وإن كان خطاباً له من دون تعريض، فأمته أسوته، فالأمر له صلى الله عليه وسلم بإيتاء ذي القربى حقه، أمر لكل فرد من أفراد أمته، والظاهر أن هذا الخطاب ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم بدليل ما قبل هذه الآية، وهي قوله: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه} [الأسراء: 23] وما بعدها، وهي قوله: {وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين}.
وفي معنى هذه الآية الدالة على وجوب صلة الرحم أحاديث كثيرة.
وأخرج أحمد، والحاكم وصححه عن أنس: أن رجلاً قال: يا رسول الله إني ذو مال كثير وذو أهل وولد وحاضرة، فأخبرني كيف أنفق وكيف أصنع؟ قال: «تخرج الزكاة المفروضة، فإنها طهرة تطهرك وتصل أقاربك وتعرف حقّ السائل والجار والمسكين»، فقال: يا رسول الله أقلل لي؟ قال: «فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً» قال: حسبي يا رسول الله.
وأخرج البزار، وأبو يعلى، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية {وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فأعطاها فدك.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت: {وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ} أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فدك. قال ابن كثير بعد أن ساق حديث أبي سعيد هذا ما لفظه: وهذا الحديث مشكل لو صح إسناده، لأن الآية مكية، وفدك إنما فتحت مع خيبر سنة سبع من الهجرة، فكيف يلتئم هذا مع هذا؟ انتهى.
وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، وصححه، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود في قوله: {وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا} قال: التبذير إنفاق المال في غير حقه.
وأخرج ابن جرير عنه قال: كنا- أصحاب محمد- نتحدّث أن التبذير: النفقة في غير حقه.
وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ المبذرين} قال: هم الذين ينفقون المال في غير حقه.
وأخرج البيهقي في الشعب عن عليّ قال: ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير وما تصدقت فلك، وما أنفقت رياء وسمعة فذلك حظ الشيطان.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا} قال: العدة.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن يسار أبي الحكم قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برّ من العراق، وكان معطاء كريماً، فقسمه بين الناس، فبلغ ذلك قوماً من العرب، فقالوا: إنا نأتي النبي صلى الله عليه وسلم نسأله، فوجدوه وقد فرغ منه، فأنزل الله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} قال: محبوسة {وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُومًا} يلومك الناس {مَّحْسُوراً} ليس بيدك شيء. أقول: ولا أدري كيف هذا؟ فالآية مكية، ولم يكن إذ ذاك عرب يقصدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحمل إليه شيء من العراق ولا مما هو أقرب منه، على أن فتح العراق لم يكن إلاّ بعد موته صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن جرير عن المنهال بن عمرو: بعثت امرأة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بابنها فقالت: قل له: اكسني ثوباً، فقال: «ما عندي شيء»، فقالت: ارجع إليه فقل له: اكسني قميصك، فرجع إليه، فنزع قميصه فأعطاها إياه، فنزلت: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً} الآية.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود نحوه.
وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة وضرب بيده: «أنفقي ما على ظهر كفي»، قالت: إذن لا يبقى شيء. قال ذلك ثلاث مرات، فأنزل الله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً} الآية، ويقدح في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يتزوّج بعائشة إلاّ بعد الهجرة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً} قال: يعني بذلك: البخل.
وأخرجا عنه في الآية قال: هذا في النفقة، يقول: لا تجعلها مغلولة لا تبسطها بخير، ولا تبسطها كل البسط، يعني: التبذير {فَتَقْعُدَ مَلُومًا} يلوم نفسه على ما فاته من ماله {مَّحْسُوراً} ذهب ماله كله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ} قال: ينظر له، فإن كان الغنى خيراً له، أغناه، وإن كان الفقر خيراً له، أفقره.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {خَشْيَةَ إملاق} قال: مخافة الفقر والفاقة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه في قوله: {خطأ} قال: خطيئة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنا} قال: يوم نزلت هذه الآية لم يكن حدود، فجاءت بعد ذلك الحدود في سورة النور.
وأخرج أبو يعلى، وابن مردويه عن أبيّ بن كعب أنه قرأ: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنا إِنَّهُ كَانَ فاحشة وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً إِلاَّ مَن تَابَ فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} فذكر لعمر، فأتاه فسأله، فقال: أخذتها من فيّ رسول الله، وليس لك عمل إلاّ الصفق بالبقيع.
وقد ورد في الترهيب عن فاحشة الزنا أحاديث كثيرة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن الضحاك في قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس} الآية، قال: هذا بمكة ونبي الله صلى الله عليه وسلم بها، وهو أوّل شيء نزل من القرآن في شأن القتل، كان المشركون من أهل مكة يغتالون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله: من قتلكم من المشركين، فلا يحملنكم قتله إياكم على أن تقتلوا له أباً أو أخاً أو واحداً من عشيرته وإن كانوا مشركين، فلا تقتلوا إلاّ قاتلكم، وهذا قبل أن تنزل براءة، وقبل أن يؤمر بقتال المشركين، فذلك قوله: {فَلاَ يُسْرِف فّى القتل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} يقول: لا تقتل غير قاتلك، وهي اليوم على ذلك الموضع من المسلمين لا يحل لهم أن يقتلوا إلاّ قاتلهم.
وأخرج البيهقي في سننه عن زيد بن أسلم أن الناس في الجاهلية كانوا إذا قتل الرجل من القوم رجلاً لم يرضوا حتى يقتلوا به رجلاً شريفاً، إذا كان قاتلهم غير شريف لم يقتلوا قاتلهم وقتلوا غيره، فوعظوا في ذلك بقول الله سبحانه: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس} إلى قوله: {فَلاَ يُسْرِف فّى القتل}.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا} قال: بينة من الله أنزلها، يطلبها وليّ المقتول، القود أو العقل، وذلك السلطان.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق مجاهد عنه {فَلاَ يُسْرِف فّى القتل} قال: لا يكثر في القتل.
وأخرج ابن المنذر من طريق أبي صالح عنه أيضاً: لا يقاتل إلاّ قاتل رحمه.


لما ذكر سبحانه النهي عن إتلاف النفوس، أتبعه بالنهي عن إتلاف الأموال، وكان أهمها بالحفظ والرعايا مال اليتيم فقال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم}. والنهي عن قربانه مبالغة في النهي عن المباشرة له وإتلافه. ثم بيّن سبحانه أن النهي عن قربانه، ليس المراد منه النهي عن مباشرته فيما يصلحه ويفسده، بل يجوز لوليّ اليتيم أن يفعل في مال اليتيم ما يصلحه، وذلك يسلتزم مباشرته، فقال: {إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ} أي: إلاّ بالخصلة التي هي أحسن الخصال، وهي حفظه وطلب الربح فيه والسعي فيما يزيد به. ثم ذكر الغاية التي للنهي عن قربان مال اليتيم فقال: {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} أي: لا تقربوه إلاّ بالتي هي أحسن حتى يبلغ اليتيم أشدّه، فإذا بلغ أشدّه كان لكم أن تدفعوه إليه، أو تتصرفوا فيه بإذنه.
وقد تقدّم الكلام على هذا مستوفى في الأنعام {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} قد مضى الكلام فيه في غير موضع. قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه، فهو من العهد، فيدخل في ذلك ما بين العبد وربه، وما بين العباد بعضهم البعض. والوفاء بالعهد: هو القيام بحفظه على الوجه الشرعي والقانون المرضي، إلاّ إذا دلّ دليل خاص على جواز النقض {إِنَّ العهد كَانَ مَّسْئُولاً} أي: مسئولاً عنه، فالمسئول هنا: هو صاحبه، وقيل: إن العهد يسأل تبكيتاً لناقضه. {وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ} أي: أتموا الكيل ولا تخسروه وقت كيلكم للناس. {وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم}. قال الزجاج: هو ميزان العدل أيّ: ميزان كان من موازين الدراهم وغيرها، وفيه لغتان: ضم القاف، وكسرها، وقيل هو القبّان المسمى بالقرسطون؛ وقيل هو العدل نفسه، وهي لغة الروم، وقيل: لغة سريانية. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر {القُسطاس} بضم القاف، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بكسر القاف، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى إيفاء الكيل والوزن، وهو مبتدأ، وخبره {خَيْرٌ} أي: خير لكم عند الله وعند الناس، يتأثر عنه حسن الذكر وترغيب الناس في معاملة من كان كذلك {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي: أحسن عاقبة، من آل إذا رجع. ثم أمر سبحانه بإصلاح اللسان والقلب فقال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي: لا تتبع ما لا تعلم، من قولك: قفوت فلاناً: إذا اتبعت أثره، ومنه قافية الشعر، لأنها تقفو كل بيت، ومنه القبيلة المشهورة بالقافة، لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس.
وحكى ابن جرير عن فرقة أنها قالت: قفا وقاف، مثل عثا وعاث. قال منذر بن سعيد البلوطي: قفا وقاف، مثل جذب وجبذ.
وحكى الكسائي عن بعض القراء أنه قرأ: {تَقُفْ} بضم القاف وسكون الفاء.
وقرأ الفراء بفتح القاف وهي لغة لبعض العرب، وأنكرها أبو حاتم وغيره. ومعنى الآية: النهي عن أن يقول الإنسان ما لا يعلم، أو يعمل بما لا علم له به، وهذه قضية كلية، وقد جعلها جماعة من المفسرين خاصة بأمور: فقيل: لا تذم أحداً بما ليس لك به علم؛ وقيل: هي في شهادة الزور؛ وقيل: هي في القذف.
وقال القتيبي: معنى الآية: لا تتبع الحدس والظنون، وهذا صواب، فإن ما عدا ذلك هو العلم؛ وقيل: المراد بالعلم هنا: هو الاعتقاد الراجح المستفاد من مستند قطعياً كان أو ظنياً. قال أبو السعود في تفسيره: واستعماله بهذا المعنى مما لا ينكر شيوعه. وأقول: إن هذه الآية قد دلت على عدم جواز العمل بما ليس بعلم، ولكنها عامة مخصصة بالأدلة الواردة بجواز العمل بالظنّ كالعمل بالعامّ، وبخبر الواحد، والعمل بالشهادة، والاجتهاد في القبلة وفي جزاء الصيد ونحو ذلك، فلا تخرج من عمومها ومن عموم {إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا} [يونس: 36]. إلاّ ما قام دليل جواز العمل به، فالعمل بالرأي في مسائل الشرع إن كان لعدم وجود الدليل في الكتاب والسنّة، فقد رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه قاضياً: «بم تقضي؟ قال بكتاب الله، قال: فإن لم تجد، قال: فبسنّة رسول الله، قال: فإن لم تجد، قال: أجتهد رأيي». وهو حديث صالح للاحتجاج به كما أوضحنا ذلك في بحث مفرد. وأما التوثب على الرأي مع وجود الدليل في الكتاب أو السنّة، ولكنه قصر صاحب الرأي عن البحث فجاء برأيه فهو داخل تحت هذا النهي دخولاً أوّلياً، لأنه محض رأي في شرع الله، وبالناس عنه غنىً بكتاب الله سبحانه وبسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم تدع إليه حاجة، على أن الترخيص في الرأي عند عدم وجود الدليل إنما هو رخصة للمجتهد يجوز له أن يعمل به، ولم يدل دليل على أنه يجوز لغيره العمل به، وينزله منزلة مسائل الشرع، وبهذا يتضح لك أتمّ اتضاح، ويظهر لك أكمل ظهور أن هذه الآراء المدوّنة في الكتب الفروعية ليست من الشرع في شيء، والعامل بها على شفا جرف هار، فالمجتهد المستكثر من الرأي قد قفا ما ليس له به علم، والمقلد المسكين العامل برأي ذلك المجتهد قد عمل بما ليس له به علم ولا لمن قلده {ظلمات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} [النور: 40].
وقد قيل: إن هذه الآية خاصة بالعقائد ولا دليل على ذلك أصلاً. ثم علل سبحانه النهي عن العمل بما ليس بعلم بقوله: {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَّسْئُولاً} إشارة إلى الأعضاء الثلاثة، وأجريت مجرى العقلاء لما كانت مسئولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها.
وقال الزجاج: إن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل ب: أولئك، وأنشد ابن جرير مستدلاً على جواز هذا قول الشاعر:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى *** والعيش بعد أولئك الأيام
واعترض بأن الرواية بعد أولئك الأقوام، وتبعه غيره على هذا الخطأ كصاحب الكشاف. والضمير في {كان} من قوله: {كَانَ عَنْهُ مَّسْئُولاً} يرجع إلى {كل} وكذا الضمير في {عنه} وقيل: الضمير في {كان} يعود إلى القافي المدلول عليه بقوله: {وَلاَ تَقْفُ}. وقوله: {عنه} في محل رفع لإسناد {مسئولاً} إليه، ورد بما حكاه النحاس من الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل إذا كان جاراً أو مجروراً. قيل: والأولى أن يقال: إنه فاعل {مسئولاً} المحذوف، والمذكور مفسر له. ومعنى سؤال هذه الجوارح: أنه يسأل صاحبها عما استعملها فيه لأنها آلات، والمستعمل لها: هو الروح الإنساني، فإن استعملها في الخير استحق الثواب، وإن استعملها في الشرّ استحق العقاب؛ وقيل: إن الله سبحانه ينطق الأعضاء هذه عند سؤالها فتخبر عما فعله صاحبها. {وَلاَ تَمْشِ فِى الأرض مَرَحًا} المرح: قيل: هو شدّة الفرح، وقيل: التكبر في المشي؛ وقيل: تجاوز الإنسان قدره؛ وقيل: الخيلاء في المشي؛ وقيل: البطر والأشر، وقيل: النشاط. والظاهر أن المراد به هنا: الخيلاء والفخر، قال الزجاج في تفسير الآية: لا تمش في الأرض مختالاً فخوراً، وذكر الأرض مع أن المشي لا يكون إلاّ عليها، أو على ما هو معتمد عليها تأكيداً وتقريراً، ولقد أحسن من قال:
ولا تمش فوق الأرض إلاّ تواضعا *** فكم تحتها قوم هم منك أرفع
وإن كنت في عزّ وحرز ومنعة *** فكم مات من قوم هم منك أمنع
والمرح مصدر وقع حالاً، أي: ذا مرح. وفي وضع المصدر موضع الصفة نوع تأكيد. وقرأ الجمهور {مرحاً} بفتح الراء على المصدر.
وحكى يعقوب عن جماعة كسرها على أنه اسم فاعل ثم علل سبحانه هذا النهي فقال: {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض} يقال: خرق الثوب أي: شقه، وخرق الأرض: قطعها، والخرق: الواسع من الأرض، والمعنى: أنك لن تخرق الأرض بمشيك عليها تكبراً، وفيه تهكم بالمختال المتكبر {وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً} أي: ولن تبلغ قدرتك إلى أن تطاول الجبال حتى يكون عظم جثتك حاملاً لك على الكبر والاختيال، فلا قوّة لك حتى تخرق الأرض بالمشي عليها، ولا عظم في بدنك حتى تطاول الجبال، فما الحامل لك على ما أنت فيه؟. و{طولاً} مصدر في موضع الحال، أو تمييز، أو مفعول له؛ وقيل: المراد بخرق الأرض نقبها، لا قطعها بالمسافة.
وقال الأزهري: خرقها: قطعها، قال النحاس: وهذا أبين كأنه مأخوذ من الخرق، وهو: الفتحة الواسعة، ويقال: فلان أخرق من فلان: أي أكثر سفراً، والإشارة بقوله: {كُلُّ ذلك} إلى جميع ما تقدّم ذكره من الأوامر والنواهي، أو إلى ما نهى عنه فقط من قوله: {وَلاَ تَقْفُ} {وَلاَ تَمْشِ}.
قرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، ومسروق: {سيئه} على إضافة سيء إلى الضمير، ويؤيد هذه القراءة قوله: {مَكْرُوهًا} فإن السيء هو المكروه. ويؤيدها أيضاً قراءة أبيّ: {كان سيئاته} واختار هذه القراءة أبو عبيد. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: {سيئة} على أنها واحدة السيئات، وانتصابها على خبرية كان، ويكون {مكروهاً} صفة ل {سيئة} على المعنى، فإنها بمعنى (سيئاً) أو هو بدل من {سيئة}؛ وقيل: هو خبر ثانٍ ل {كان} حملاً على لفظ {كل} ورجح أبو علي الفارسي البدل، وقد قيل في توجيهه بغير هذا مما فيه تعسف لا يخفى. قال الزجاج: والإضافة أحسن، لأن ما تقدّم من الآيات فيها سيء وحسن، فسيئه المكروه. ويقوّي ذلك التذكير في المكروه، قال: ومن قرأ بالتنوين جعل {كل ذلك} إحاطة بالمنهيّ عنه دون الحسن. المعنى: كل ما نهى الله عنه كان سيئة وكان مكروهاً. قال: والمكروه على هذه القراءة بدل من السيئة، وليس بنعت. والمراد بالمكروه عند الله: هو الذي يبغضه ولا يرضاه، لا أنه غير مراد مطلقاً، لقيام الأدلة القاطعة على أن الأشياء واقعة بإرادته سبحانه، وذكر مطلق الكراهة مع أن في الأشياء المتقدّمة ما هو من الكبائر إشعاراً بأن مجرّد الكراهة عنده تعالى يوجب انزجار السامع واجتنابه لذلك. والحاصل: أن في الخصال المتقدّمة ما هو حسن وهو المأمور به، وما هو مكروه وهو المنهيّ عنه، فعلى قراءة الإضافة تكون الإشارة بقوله: {كُلُّ ذلك} إلى جميع الخصال حسنها ومكروهها، ثم الإخبار بأن ما هو سيء من هذه الأشياء وهو المنهي عنه مكروه عند الله، وعلى قراءة الإفراد من دون إضافة تكون الإشارة إلى المنهيات، ثم الإخبار عن هذه المنهيات بأنها سيئة مكروهة عند الله. {ذلك مِمَّا أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة} الإشارة إلى ما تقدّم ذكره من قوله: {لاَّ تَجْعَل} إلى هذه الغاية، وترتقي إلى خمسة وعشرين تكليفاً، {مِمَّا أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ} أي: من جنسه أو بعض منه، وسمي حكمة لأنه كلام محكم، وهو ما علمه من الشرائع، أو من الأحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها الفساد، وعند الحكماء: أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته، و{من الحكمة} متعلق بمحذوف وقع حالاً، أي: كائناً من الحكمة، أو بدل من الموصول بإعادة الجار، أو متعلق ب {أوحى}. {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} كرر سبحانه النهي عن الشرك تأكيداً وتقريراً وتنبيهاً عن أنه رأس خصال الدين وعمدته.
قيل: وقد راعى سبحانه في هذا التأكيد دقيقة، فرتب على الأوّل كونه مذموماً مخذولاً، وذلك إشارة إلى حال الشرك في الدنيا، ورتب على الثاني أنه يلقى {فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} وذلك إشارة إلى حاله في الآخرة، وفي القعود هناك، والإلقاء هنا إشارة إلى أن للإنسان في الدنيا صورة اختيار بخلاف الآخرة، وقد تقدّم تفسير الملوم والمدحور. {أفأصفاكم رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملئكة إِنَاثًا} قال أبو عبيدة: {أصفاكم}: خصكم، وقال الفضل: أخلصكم، وهو خطاب للكفار القائلين بأن الملائكة بنات الله، وفيه توبيخ شديد، وتقريع بالغ لما كان يقوله هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضل، والفاء للعطف على مقدّر، كنظائره مما قد كررناه. {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ} يعني: القائلين بأن لهم الذكر ولله الإناث {قَوْلاً عَظِيمًا} بالغاً في العظم والجراءة على الله إلى مكان لا يقادر قدره. {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هذا القرءان} أي: بينا ضروب القول فيه من الأمثال وغيرها، أو كررنا فيه؛ وقيل: {في} زائدة، والتقدير ولقد صرفنا هذا القرآن. والتصريف في الأصل: صرف الشيء من جهة إلى جهة؛ وقيل: معنى التصريف: المغايرة، أي: غايرنا بين المواعظ ليتذكروا ويعتبروا، وقراءة الجمهور {صرّفنا} بالتشديد، وقرأ الحسن بالتخفيف، ثم علل تعالى ذلك فقال: {لّيَذْكُرُواْ} أي: ليتعظوا ويتدبروا بعقولهم ويتفكروا فيه حتى يقفوا على بطلان ما يقولونه. قرأ يحيى بن وثاب، والأعمش، وحمزة، والكسائي: {ليذكروا} مخففاً، والباقون بالتشديد، واختارها أبو عبيد لما تفيده من معنى التكثير، وجملة {وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا} في محل نصب على الحال، أي: والحال أن هذا التصريف والتذكير ما يزيدهم إلاّ تباعداً عن الحق وغفلة عن النظر في الصواب، لأنهم قد اعتقدوا في القرآن أنه حيلة وسحر وكهانة وشعر، وهم لا ينزعون عن هذه الغواية ولا وازع لهم يزعهم إلى الهداية.
وقد أخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم} قال: كانوا لا يخالطونهم في مال ولا مأكل ولا مركب حتى نزلت: {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم} [البقرة: 220].
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {إِنَّ العهد كَانَ مَّسْئُولاً} قال: يسأل الله ناقض العهد عن نقضه.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية، قال: يسأل عهده من أعطاه إياه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ} يعني: لغيركم {وَزِنُواْ بالقسطاس} يعني: الميزان، وبلغة الروم: الميزان: القسطاس: {ذلك خَيْرٌ} يعني: وفاء الكليل والميزان خير من النقصان {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} عاقبة.
وأخرج ابن أبي شيبة، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: القسطاس: العدل بالرومية.
وأخرج ابن المنذر عن الضحاك قال: القسطاس: القبّان.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: الحديد.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ تَقْفُ} قال: لا تقل.
وأخرج ابن جرير عنه قال: لا ترم أحداً بما ليس لك به علم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن الحنفية في الآية قال: شهادة الزور.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله: {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَّسْئُولاً} يقول: سمعه وبصره وفؤاده تشهد عليه.
وأخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله: {كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَّسْئُولاً} قال: يوم القيامة أكذلك كان أم لا؟.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَلاَ تَمْشِ فِى الارض مَرَحًا} قال: لا تمش فخراً وكبراً، فإن ذلك لا يبلغ بك الجبال ولا أن تخرق الأرض بفخرك وكبرك.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن التوارة في خمس عشرة آية من بني إسرائيل ثم تلا {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {مَّدْحُورًا} قال: مطروداً.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6